نتكلّم
اليوم عن قصة انتصار الإنسانية بأبهى تجلياتها، هي قصة سيدة فريدة كان مصيرها
مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالأحداث التاريخية في كربلاء. تلك الأحداث التي أثرت في
البشرية كما عليها من خلال ترجمة الواقع الحقيقي لعيش الإسلام المحمدي.
مركز الامة الواحدة - ابحاث اسلامية - بقلم الدكتورة ليلى شمس الدين[1]
في
الحديث عن السيدة زينب بنت علي (ع)، لا يسعنا إلاّ التمعّن في هذه الشخصية
الاستثنائية التي واجهت كقائدة وكمبلّغة أعتى اعتياء عصرها، ولم تستسلم للعواقب، ولا
للظلم والاستبداد الذي لحق بها وبمحيطها وبإمام زمانها.
في موقعها هذا، تعدّدت أدوارها الرئيسية والرسالية
مباشرة بعد واقعة كربلاء كما كانت قبلها، فبرزت شقيقة الإمامين الحسنين (ع) كبطلة
لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وتجلّى دورها عندما أخذت زمام الأمور بيديها، وأصبحت
رمزًا نسوياً للقيادة، والمقاومة والشجاعة.
عُرفت
كبطلة من خلال تعاملها الاستثنائي مع الظروف التي واجهتها، وما زالت حتى اليوم
نموذجًا يحتذى به لدور المرأة الريادي منذ واقعة الطف وستبقى كذلك إلى قيام
الساعة.
مسيرتها
وضعتنا أمام نموذج حر، رفض كل أحكام التبعية والعبودية لغير الباري عز وجل، لقد رفضت
كل أحكام التبعية على تعدّدها كما تمايزها...فوضعتنا أمام نموذج مواجه غير خانع، مضحّي
غير منكسر، صابر غير منهزم، لم يشهد له عصرها من مثيل.
نقلتنا السيدة زينب (ع) بحكمتها وحنكتها لنطل على دور
النساء في القيادة في ذلك العصر. كلنا يعلم أن ثورة عاشوراء أبرزت دور
النساء في القيادة، مقارنة أيضاً بدور لافت جداً للنساء في زمن بني أمية. العصر
الذي سلّع المرأة واعتبرها مثالاً ورمزاً للشهوة واللذة ليس إلاّ، العصر الذي مارس
التمييز بين موقع المرأة وموقع الرجل، فلم يتعامل مع المرأة كإنسان له حضوره
وفعاليته وإرادته وقرارته.
لقد
نقل التاريخ لنا أنّ النساء كن أحد الأهداف الأساسية للعدو في كربلاء، كان الهدف
هو كسرهن عاطفياً بعد قتل الرجال والأبناء، ونقل لنا التاريخ أيضاً، أنهم وجدوا
مشهداً مغايراً.
في
ذاك الزمن برزت زينب (ع)، فواجه جيش ابن زياد امرأة قوية صلبة، محتسبة، صابرة ومتماسكة.
لم تندب شهداءها، ولم تغرق في حزنها بل على العكس كانت امرأة قيادية، وهو ما أدهش
جنود وفرسان جيش يزيد، كما أدهش يزيد وابن زياد ومن كان في البلاط وقت خطبت فيهم
زينب.
وما
إحياء ذكرى عاشوراء من خلال شخصية السيدة زينب (ع) إلاّ تذكيراً لجميع النساء بأهمية
مراجعة قيمتهن من خلال أدوارهن وتأثيرهن في مجتمعاتهن. السؤال المحوري والأساس
برأيي يتمحور حول دراسة هذه الشخصية منذ طفولتها، وأكاد أقول منذ كانت جنيناً في
رحم والدتها السيدة فاطمة (ع) وإلى لحظة انتقال روحها إلى بارئها.
فمن هي هذه الشخصية التي
حافظت على هدوئها في قلب معركة كواقعة عاشوراء؟ من هي هذه الشخصية التي حافظت على
سكينتها في خضم هذه المصائب؟ بل وتمكّنت من قلب المشهد رأساً على عقب. وكيف ولماذا
وصلت السيدة زينب (ع) إلى هذا المصاف وهذه المنزلة؟ ولماذا نعتبرها السيدة القدوة؟
وهل يُمكننا بلوغ كنهها؟
لنعد معاً إلى زينب الطفلة، التي ولدت وتربت
في بيت النبوة والإمامة، فاكتسبت ما اكتسبت من التربية الصالحة والقيم الإيجابية، ولكنها
ما لبثت أن شهدت في طفولتها وفاة جدها، ومن ثمّ وفاة والدتها وهي صغيرة السن. فحملت
منذ صغرها مسؤولية إدارة شؤون المنزل والعائلة، وهو ما أكسبها شخصية صلبة ذات
إرادة وإدارة.
إنّ
بناء هذه الشخصية في تحمّل المسؤولية أتى نتيجة التربية، فالتحضير من الأساس للإمساك بزمام الأمور يأتي بفعل التربية،
هذه التربية التي درّبتها وأنشأتها على خوض التحديات لا على الانكفاء. لقد منحتها تربيتها
أدواراً متعدّدة في محيطها، فكانت نموذجاً لنا لنعرف وندرك أنّ أدوارنا في هذه
الحياة على الأقل كنساء ليست واحدة.
كانت زينب (ع) الأخت والابنة ومديرة المنزل، ثمّ الزوجة
التي لم تذب فقط في حياة زوجها وإنّما كان لها حضورها وعلى صعد عدّة. إنّ
تعداد مزايا هذه الشخصية الاستثنائية، يضعنا ضمن مروحة تجمع بين الزهد والعفة، والتقوى
والحكمة، والتعقّل والجرأة، والحياء والشجاعة، والبلاغة والدقّة،
والرصانة وعمق المعرفة كما اليقين والصبر، إضافة إلى التواضع والأخلاق العالية.
تعدّدت
مزايا بطلة كربلاء، ولكنّ التعداد هنا ليس بهدف الوصف، وإنّما للغوص في كنه هذه
الصفات وللوقوف على مسار كل صفة منها. لتكتسب زينب
(ع) كل هذه المزايا يعني أنّها تربّت عليها ومارستها وعاشتها وعايشتها.
في
هذا السياق، سأتطرّق إلى بعض الأمثلة ولو القليلة ممّا وصلنا عبر التاريخ عن حياتها.
فزينب الشابة كانت تقيم حلقات تعليم لقراءة وتفسير القرآن الكريم لبنات كما لنساء
مجتمعها لتعلّمهن وتكسبهن من خبرتها المستندة على قيم إسلامية ثابتة لا لبس فيها
ولا نقاش.
ماذا
يعني هذا؟؟ يعني إنّنا أمام معلّمة تعلّمت وعلّمت، اكتسبت وأكسبت، ونحن نعلم أنّ
زكاة العلم إنفاقه. في هذا الوقت كانت زينب الزوجة والأم وسيدة المنزل ومديرته
ومدبرته في آن، وبالتالي أعطتنا درساً أساسياً
حول أدورانا في مجتمعاتنا كما في حياتنا الخاصّة.
كانت السيدة زينب (ع) متعدّدة الأدوار وبالتالي قدّمت
لنا مشهداً عما يمكن أن تخوضه المرأة في مواقع متعدّدة، من الابنة إلى الأخت إلى الزوجة
والأم دون أن تترك أياً منها. هي أدوار متلازمة مع المعلّمة، والفاعلة، والقائدة دون
أن نغفل عن أهمية دورها الإعلامي كما السياسي والاجتماعي والثقافي في كل من هذه
المراحل والمسارات.
سأعود إلى كربلاء، إلى حاضر زينب (ع)، زينب في كربلاء
كانت سيدة ستينية ولم تكن بعمر الشباب، كانت بعمر الكهول، ولم تأت مرغمة مع
أخويها، وأيضاً لم تكن برفقة زوجها ـــــــ يُقال بأنّه كان مريضاً ـــــــ
وبالتالي اختارت السيدة زينب (ع) تركه من باب تقديم الأولويات، لتلتحق بمسيرة ذات
أولوية أولى بالنسبة إليها في تلك الظروف.
إذاً اختارت زينب (ع) أن تسلك هذا الطريق عن قناعة
وإرادة مطلقة، وما يعنيني تبيانه هنا هو حقها في الاختيار وتقرير المصير. النقطة الثانية
التي تستوقفني، هي مسألة العمر. زينب (ع) كانت كهلة، وبالتالي لم تقل أنا امرأة
كبيرة في السن لا حول لي ولا قوّة، وإنما استلمت دفّة القيادة، وإدارة أعداد ليست بالقليلة
من النساء والأطفال. وهنا درس آخر نتعلّمه من السيدة زينب وهو تحمّل المسؤولية
مهما زاد العمر أو صغر.
زينب
(ع) حافظت على هدوءها وسكينتها، تلك العلاقة التي نسجتها مع بارئها منذ ولدت كانت
عونها وساعدتها على الاحتساب، لذلك نقول عنها المحتسبة. في عاشوراء ذكّرت النساء ووجهتهن
إلى ضرورة الصبر ورفع أكبر درجات القدرة على التحمّل، وطلبت منهن أن يتصرفن بصبر
وسكينة. لقد قالت زينب (ع) كلمة الحق وواجهت، لقد كانت تملك إرادة العزيمة
والمواجهة.
تمثّلت
إرادة وعزيمة السيدة زينب (ع) في أكثر من مشهد في كربلاء وما تلاها، ونستقرأ بعضاً
من شخصيتها عندما ألقت خطابًا ملهمًا وجريئًا ضد يزيد في بلاطه أمام رجاله، فاسكتته بحكمتها. لقد تضمّنت خطبتها
تحليلاً لمضمون رائع بصياغة بديعة وبليغة أحرجت يزيد وأخرسته.
لقد
وقفت سيدة كربلاء في ذلك الوقت وفي ظروف قاسية وصعبة جداً، وقفت وقفة عز وعنفوان،
أظهره لنا التاريخ من خلالها مدى قوة شخصيتها وقدرتها على إدارة الأمور وعلى
استخدام علم النفس الإعلامي بهدف قلب المشهد.
واجهت
السيدة زينب (ع) يزيد بالحكمة والحنكة، قالت له انت تفتقر إلى البصيرة، وتنقصك
معرفتك بالموقف، لا تملك القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ. مع هذا الموقف، شعر
الناس في بلاط يزيد بالذهول من هذا الخطاب الشجاع لحفيدة النبي، حاججت يزيد بقوة
المنطق، فغلبته وقهرته واجبرته على الانصياع لشروطها بحكمتها وبلاغة تعبيرها.
ففي
الوقت الذي استشهد شقيقيها، وأولادها وأحبتها وأهل بيتها والأصحاب، وتمّ أسرها
وعشرات النساء والأطفال. لقد تحدثت السيدة زينب (ع) بنفس النبرة، وبنفس الكلمات
التي كان يستخدمها والدها الإمام علي (ع)، كانت بنفس القدر من البلاغة والدقة والعمق.
نحن
نعرف أنّ القضية لم تنته هنا، ولم تنته بمسيرة العودة سواء إلى كربلاء أو إلى
المدينة. لقد أرادت السيدة زينب (ع) من خلال هذه
الأفعال أن تُعلِمَنا وأن تُعلّمنا في آن، وخاصة ممّن وقع تحت تأثير هذه الكارثة إنّ
الأمور لم ولن تنته هنا.
إنّ قضية أساسية ومحورية كهذه القضية، لا تنتهي بقتل، أو
باستشهاد، أو بدفن، أو بأسر أو حتى بفك هذا الأسر. التحرير هنا، هو تحرير العقل
بالفعل، أولاً بفعل إرادة المواجهة، ويجب أن يستتبع هذه الإرادة عمل ينهض بالقضية
الأساس.
إذاً، هي معركة مستمرة
لا توقفها معوقات مهما كبر حجمها حتى ولو وصلت إلى الشهادة، لا
يُمكن للسيدة زينب أن تقوم بكل هذه المهمات، دون أن تكون قد تربّت عليها وتدرّبت
على خوضها، وهنا جوهر الأمر الذي يجب أن نخوض فيه وننهل منه.
هو
نقاش علينا أن نطرحه ونغوص فيه باستمرار، لنسترشد بهذا النموذج المتكامل في
التربية والتنشئة، بعد أن نصل إلى منطلقات مزايا وصفات السيدة زينب (ع)، هذه
الشخصية الاستثنائية في ذاك الزمن وفي كل زمن.
[1] باحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام، أستاذة
جامعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق