هل محورية الفرد هي الاهم ام ان محورية المجتمع هي الاهم ؟ هناك اطروحات عديدة حول هذا الموضوع الاجتماعي الحساس ، ولكن من الواضح اننا ننحاز الى النظرية التي تتحدث عن ضرورة تكاملهما معا على نحو المعية لانتاج مجتمع سليم ينحل الى افراد يعيشون في ظل مجنمع سليم ، فهذا لا نقاش فيه .
مركز الامة الواحدة - مقالات - بقلم توفيق حسن علوية كاتب وباحث من لبنان
وانما موضوعنا حول التأثير اي هل الفرد يؤثر على المجتمع ام ان المجتمع هو الذي يؤثر على الفرد ؟ بالغالب المجتمع هو الذي يؤثر على الفرد ويهيمن على ذاته وصفاته وافعاله وسلوكياته ويفرض عليه نمطا حياتيا معينا ، ولهذا نجد ان اغلب الافراد يتبعون قالبهم الاجتماعي مظهرا وجوهرا ، واذا كان المجتمع صالحا فيصلح الفرد وبالعكس ان كان فاسدا ، وقد ينفلت عن هذه القاعدة مجموعة افراد بنحو كلي او جزئي الا ان القاعدة هي هذه بما لا مزيد عليه .
اننا اذا رجعنا الى المجتمعات الشرقية نجد ان الافراد في ظل الانظمة لا قيمة لهم وربما يتم التضحية بهم في سبيل الهرمية الاجتماعية والنظم السياسية والاقتصادية وما اشبه ، ففي ظل مئات الافراد او الاف الاشخاص او ملايين الافراد لا قيمة لراي فرد او فردين او حرية فرد او فردين او حتى لوجود فرد او فردين في حال التعارض مع ما يسمى المصلحة العامة او النظام العام او التيار العام وما اشبه ذلك ، بينما نجد ان الامر ليس كذلك في مجتمعات اخرى تعطي الاهمية والقيمة للفرد ولا تسحقه ولا تكبسه ولا تطمسه لاجل الهرمية العامة فربما كان احد هؤلاء الافراد يمتلك مؤهلات عظيمة تنفع السياق العام والوجود العام اكثر من ملايين الافراد !! ولهذا اذا طالب ثلاثة افراد في بعض المجتمعات بقانون خاص بهم فلربما وجدوا عند انظمتهم اذانا صاغية حتى لو كان مطلبهم غير متقبل وغير مالوف بل ومخالف للنمط الاجتماعي المتواجد عندهم ، وقد راينا ان عدة دول تدرس تشريعات خاصة لافراد قلائل لديهم مطالب خاصة وربما تصادق عليها ايضا ولا تدرسها فحسب . ومما يضحك الثكلى في يوم حزنها ويبكي العروس في يوم فرحها ان الكثير من المجتمعات والانظمة عندنا التي تضغط على الفرد بل وتسحقه من اجل المصلحة العامة والنظام العام ربما تفعل ذلك بمجتمع باكمله ويكون المقصود بالمصلحة العامة والنظام العام الحاكم نفسه او الزعيم ! وايضا تفعل ذلك وبعد ذلك تقول عن الزعيم او الحاكم بأنه امة في رجل وفرد بمجتمع باكمله بل بشعوب وما اشبه ، واذا درست احوال هذا الحاكم او هذا الزعيم نجد انه ليس لديه اي قيمة ذاتية وانما اكتسب قيمة اعتبارية من السلطة والحكم وما اشبه ذلك من العرض الزائل .
من جميع ما تقدم ندرك صوابية القول بان الفرد له قيمة وللمجتمع له قيمة وينتج عن تكاملهما منظومة انسانية سليمة .
اما عن تأثير الفرد بالمجتمع وبتغيير مجتمع باكمله فهذا ممكن وواقع ، وهو يعود الى مدى قوة الشخصية الفردية وجامعيتها لصفات مميزة ، وقد حفل الوجود بنماذج عدة من هذا الطراز الرفيع ، ولم يقتصر الامر على القادة الدينيين وانما تحقق ايضا على يد قادة غير دينيين ، نعم لان للشخصية الدينية عدة ابعاد في خطابها ومشروعها فإن تاثيرها كان اقوى واوسع ، ولهذا تم التعبير مثلا عن الرسالة المحمدية بأنها ليست مجرد سفارة الهية وانما هي ثورة انسانية عامة احدثت تغييرا عاما في الوجود وما زالت متألقة ومتوهجة .
ومن هذه الشخصيات التي كان لها تاثير تغييري حقيقي بمجتمع باكمله بوصفها صاحبة قيمة ذاتية لم تكتسب قيمتها من عرض زائل من قبيل سلطة ومال وما اشبه ، الامام السيد موسى الصدر اعاده الله بخير .
فهذه الشخصية تمتاز بمجموعة من المميزات التي تكشف عن جزء من شخصيته لا عن كامل ابعاد هذه الشخصية ، ومن هذه المميزات :
الاولى : القيمة الذاتية :
فالناس عادة انما تكتسب قيمتها من امور خارجة عن ذاتها من قبيل السلطة والقوة والمال وغير ذلك . وقلما نجد من يكتسب قيمة ذاتية بمعزل عن كل هذه الاعتبارات ، فيكون شخصية مميزة حتى لو كان بلا مال وبلا سلطة وبلا قوة ووو... هكذا كان الامام السيد موسى الصدر ، فالناس قبل ان تعرفه رئيسا للمجلس وقائدا للمقاومة ومفكرا ذائع الصيت .. كانت توقره وتنفتل اليه وتعظمه .
الثانية : مواكبة النسب الشريف :
هناك صنفان من الناس بحسب النسب :
الصنف الاول : هم اولىك الذين لديهم نسب شريف وعال ووازن وهو تجسيد لمفخرة عظيمة في المجتمع ، الا انهم لا يمتلكون المؤهلات الذاتية التي تساعدهم على مواكبة شرافة النسب العظيمة .
الصنف الثاني : هم اولئك الذين لديهم نسب وضيع الا ان لديهم مؤهلات ذاتية راقية تجعلهم ممن يصدق عليهم القول المعروف : ليس الفتى من قال كان ابي .. وانما الفتى من قال : هاانا ذا . وقديما قال احد اصحاب الانساب المشهورة لاحد الفلاسفة في معرض تعييره بنسبه : نسبك عار عليك . فاجابه الفيلسوف بالقول : نسبي عار علي وانت عار على نسبك .
اما الامام الصدر فهو من نسب شريف كما هو معلوم كما انه من عائلة علمائية معروفة ومشهود لها تشتمل على كبار العلماء ومنهم مراجع تقليد ، الا ان انتسابه الشريف لاهل البيت عليهم الصلاة والسلام وللعائلة العلمائية لم يجعله متكئا على النسب فحسب ، وانما عمل على بناء شخصيته واستطاع تحصيل قيمة ذاتية جعلت منه شخصية مواكبة للنسب الشريف ولعله اعاده الله استطاع ان يكون محطة مفصلية في هذا النسب الشريف لا مجرد اسم في تسلسل الشجرة النسبية المباركة ، ولا نبالغ اذا قلنا ان اي احد يريد اعطاء توضيح تعريفي عن شخصية من الشخصيات العائلية للامام موسى الصدر فإنه يقول : جد الامام موسى الصدر . والد الامام موسى الصدر . احد اقرباء الامام موسى الصدر وهكذا .
الثالثة : الانسانية المتجذرة :
لا ادري سر هذه الشخصية المميزة للامام السيد موسى الصدر التي استطاعت اختراق كل العوائق والاطر والقوالب الاجتماعية والدينية والبيئية والجغرافية والديمغرافية لتعيش الانسانية بطريقة عيش طبيعية غير مصطنعة ، فمن المعلوم ان هناك من يرفع شعار الانسانية في الظاهر والصورة وهو لايعيشها بالواقع بدوائر عديدة اما بدائرة دينه ، واما بدائرة مذهبه ، واما بداىرة فكره واتجاهه السياسي ، لكن الامام موسى الصدر كان يعيش في عمق ذاته الانسانية بأبعد مدياتها ، ومن منطلق عيشه للانسانية لمس من كان حوله وفي زمانه انه كان بعلاقته مع كل انسان يعيش العلاقة المتجردة عن كامل خصوصيات هذا الانسان ، فيجرده عن دينه وطائفته ومذهبه وتوجهه الغكري والسياسي ويتعاطى معه كانسان بطريقة طبيعية غير متكلفة ، وقد قيل في بعض الدراسات ان احد وظائف العقل التجريد ، فيستطيع العقل تجريد الشجرة مثلا من الاغصان والثمار والاوراق ويقول : هذه شجرة . كما يسنطيع التركيب فيقول : جبل من ثلج . وكان الامام موسى الصدر في طريقة تعاطيه ونظرته للاخر عقل وظيفته تجريد الاخر من خصوصياته والتعاطي معه كانسان . وقد تحدث غير واحد عن هذه الخصوصية اي الانسانية المتجذرة في عمق اعماق شخصية الامام الصدر منها قضية المسيحي الذي كان يبيع المثلجات في صور ، ومنها الحديث عن المحرومين بلا اي تمييز بين محروم واخر ، ومنها ما فاض عنه حول كرامة الانسان والانسان في مؤلفاته ، وبالعموم فإن محورية الانسان من ارقى تجليات الظاهرة الصدرية ، فمجرد ان يرى الانسان فلا يوجد اي مانع يمنع من التفاعل معه وفتح كل قنوات اجهزة الاستقبال البشري ، وهناك قصص كثيرة عن الامام موسى الصدر وانسانيته مع الانسان وأنسنة الانسان بالعموم ومنها انه قال لبعض المسيحيين الذين كانوا قد رهنوا بعض اراضيهم وكانوا يخشون مرور مشروع العاصي عليهم فتذهب اراضيهم المرهونة : انكم ستبقون هنا مع اراضيكم التي تزرعونها وتتعهدونها ، ولهذا ورد ان من جملة من تلقف خطابه في قضية المحرومين هم اهل عرسال ، وهذا دليل على انه اعاده الله نجح في اختراق بنيان الطائفية والمذهبية .
الرابعة : حسن الاصغاء :
ورد ان احد الامراء اشتكى الالم من معدته ، وعجز الاطباء عن علاجه ، وقدم الشيخ الرئيس ابن سينا لعلاجه ، فوصف له ان يعيش في مشفى المرضى للعموم وان ياكل الشعير ، وتعجب الامير من ذلك لكونه من الخواص ، الا ان ابن سينا اصر عليه ، وفعلا اتى الامير متخفيا الى المشفى وجلس مع المرضى وزوارهم هناك وخالط الناس واكل من طعامهم واستمع الى الكثير من شؤونهم وشجونهم وحوائجهم من دون ان يعرفوه ، وبعد ذلك تم شفاء الامير ، وعندما سال الامير ابن سينا عن هذا السر العظيم بالعلاج في المشفى المعد للعموم واكل الشعير ؟ كان جواب ابن سينا بأن المشفى والشعير لم يتسببا بالشفاء وانما كان سبب الشفاء هو ابعادك عن بعض افراد اسرتك الذين كانوا يضعون لك السم ، وانما اتيت بك الى المشفى ونصحتك بالشعير لابعدك عن افراد اسرتك أولا ، ولاطمئن بانك لن تاكل من طعامهم ثانيا ، والاهم من كل ذلك لتتعرف على هموم واحوال رعيتك فتشعر وتحس بها .
من هذه القصة نستنتج بان احاطة الشخصية القيادية بالظروف التي يعيشها الناس من اهم مداميك نجاحه في القيادة ، فأن ينحاز القيادي عن ظروف الناس واوضاعهم وشؤونهم واحوالهم وان لا يسمع ولا يصغي لمطالبهم وما يعيشونه من هموم وشجون وظروف وانما يطلع على ذلك من خلال موظفيه وممن يعملون تحت يديه فهذا مما لا يفيد في تسمية القيادي بالقيادي اولا ، ولا يجعله ناجحا ثانيا ، ولا تسمح الظروف له بالاستمرار ثالثا . وعلى ما تقدم ان افضل ما يفعله القيادي هو ان يعيش نبض الناس ، وان يكون محيطا بهمومهم وظروفهم ومشاكلهم ، وان يكون قريبا منهم يحدثهم ويحدثونه ويسمع كلامهم ويسمعون كلامه ، وهذا ما كان عليه الامام موسى الصدر على نحو التحقيق والتدقيق ، فقد كان يمتلك قوة حس الاصغاء ، كان عنده قدرة هدارة على الاصغاء ، فيصغي للكبير والصغير ، ويتكلم معه الناس بكل ما يختزنونه في نفوسهم وعقولهم ، والاصغاء يعني القرب من الناس حضوريا ، ويعني رفع كل الحواجز والموانع التكلفية ، ويعني ان المتكلم مع الامام الصدر كان يعيش جو الثقة بقيادته ، ويعني ان القائد يحيط شخصيا وبلا واسطة بما يجري مع الناس . فحسن الاصغاء عند الامام الصدر كشف عن احدى المميزات المهمة في شخصيته الفذة .
الخامسة : مواكبة الزمكنة :
اي مواكبة الزمان والمكان وظروفهما ، فمن المعلوم ان الامام الصدر هو من بيئة علمائية تقليدية ، فأن يكون المتخرج من هذه البيئة عالما لديه قدرة على فهم الزمان والمكان وظروفهما والتفاعل معهما في سيرته ومسيرته فهذا ليس بالامر السهل ولا الهين ، فلقد تفاعل الامام الصدر مع مقتضيات الزمان والمكان بالتوازي مع الثبات على كل ثوابت الدين والمبدأ والقيم ، ونجح في تقديم صورة العالم الذي طرق كل ما تتطلبه الحضارة الحديثة من اوسع ابوابها ، ونجح في حمل كل النخب على تقبل وجود رجل دين معمم بينهم يتحدث عن كل المفاهيم المطروحة بكل ثقة ويظهر اطروحته الولائية الحقة ، كما انه اعاده الله فهم ظروف التاس وطريقة تعاطي اهل السياسة المحلية والاقليمية والدولية بدقة وكان يتعامل مع كل ذلك من منطلق هذا الفهم الصحيح لظروف الزمان والمكان ، ومن المعلوم انه اعاده الله كانت لديه الكثير من الابحاث والكتابات العلمية الدقيقة ولكنه حينما دخل المعترك الرسالي خاطب الناس بخطاب سلس وسهل يتناسب مع ظروفهم ، وكان اعاده الله يعرف ان الخطاب الذي يتم توجيهه للشعب الايراني في الوقت الذي كان يعمل فيه في ايران يختلف عن الخطاب الذي ينبغي توجيهه للشعب اللبناني حينما كان في لبنان ، فهذه القدرة على تنويع الخطاب مع الابقاء على الاصالة بحسب تنوع الزمان والمكان تكشف عن احدى المميزات في شخصية الامام الصدر الفذة .
الساادسة : سعة الافق
قد يكون الفرد شخصية عامة ولها شعبيتها بحكم الارث الشعبي الذي ورثه عن احد انسابه ولكن هذا لا يشفع لهذا الفرد قصر نظره ومحدودية تفكيره وضيق افقه فتنحسر شعبيته وربما تنعدم بسبب ذلك ، وقد يكون الفرد مترعرعا في بيئة تقليدية لها شؤونها المحلية الخاصة فيتخرج من هذه البيئة وهو يعيش هذه المحدودية في الافق ، وقد يكون الفرد في بيئة معروفة بسعة الافق وعدم المحدودية الا ان هذا الفرد يقصر عن متابعة هذه البيئة بحكم ضيق تفكيره ومحدودية أفقه ، فالقضية اذن ترجع الى نفس الشخصية والبيئة انما تساعد في ذاك وترفد هذه الشخصية بسعة الافق من خلال بعض المزايا ، ولقد ظهرت على الامام الصدر مبكرا جدا ميزة سعة الافق ، فقي الجمهورية الاسلامية في ايران عاش سعة الافق وعدم محدوديته في كثير من تحركاته واعماله وهذا ما تكتشفه حينما تقرا عن دوره الفاعل حينما كان في ايران ، وحبذا لو يقوم احد بتاليف كتاب خاص بالامام الصدر في الفترة الايرانية اي في فترة ترعرعه ومكوثه في ايران ، وان يتم تأليف كتاب خاص في الفترة النجفية اي فترة مكوثه في النجف ، وتاليف كتاب خاص في الفترة اللبنانية اي في فترة مكوثه واستقراره في لبنان .
ان سعة أفق الامام الصدر حداه الى ان يكون في لبنان ويطرح كل هذه الشعارات ويقوم بتطبيق جزء كبير منها ، انظروا على سبيل المثال الى عملية تاسيس العمل المسلح ضد الصهاينة فهذا العمل يدل على سعة افق ، وانظروا مثلا الى قضية معالجة الفقر بانشاء مهنيات في بداية وصوله الى لبنان فهذا يكشف عن سعة افق انك مهما ساعدت هذا الفقير فسيبقى محتاجا اما اذا ساعدته في امتهان مهنة فلن يبقى محتاجا وسيعول من حوله ، وهكذا هناك امثلة كثيرة حول سعة افقه نظير معالجته للكثير من المشاكل والحوادث المحلية من خلال مفتاحها الاقليمي ، ونظير المبادرة الى تاسيس مؤسسات وصروح للاجيال الاتية ، بل هناك امر مهم يدل على صعيد سعة افق الامام الصدر وهو ان المؤسسة الشيعية الوحيدة في العالم التي لها حق رسمي بالتقدم بشكوى للامم المتحدة وفق بروتوكول خاص لاعادة بناء مراقد البقيع هي مؤسسة المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى الذي اسسه الامام الصدر وجعله رسميا وله ربطية بروتوكولية بالنظام العالمي ، وطبعا هذا من الشواهد وليس من باب الحصر ، ومن شواهد سعة أفقه اعتبار حل القضية الفلسطينية من خلال زوال الاحتلال الذي اعتبره ( شر مطلق ) كمحور اساس لعلاج كل مشاكل الشرق الاوسط ،
ففي عام 1973 أعلن في خطبة الجمعة أن السعي لتحرير فلسطين سعي لإنقاذ المقدسات الإسلامية والمسيحية وسعي لتحرير الإنسان، كما أنه نادى بعدم تشويه سمعة الله في الأرض، لأن الصهيونية بتصرفاتها تشوّه سمعة الله. كما دعا عبر نداء وجّهه عندما اندلعت حرب رمضان إلى الجهاد وقاد حملة تبرعات لنصرة المجاهدين ، وصرح بانني ساخلع ردائي واصبح فدائي وان على المؤمنين مقاتلة الصهاينة باسنانهم واظافرهم ، ومن شواهد سعة أفقه
دعوته إلى اعتماد النظام المدني المتدين كبديل عن النظامين الطائفي والعلماني .
السابعة : الحركية :
من المميزات المهمة في شخصية الامام الصدر الحركية والعمل الدؤوب ، فنحن قرأنا عن شخصيات وشخصيات كيف انهم كانوا لا يتزحزحون من بيوتهم واماكنهم وكانت الناس تاتي اليهم ، اما الامام الصدر فقد كان مؤمنا بالمبادرة والحركة ، فكان يبادر الى التحرك الجاد والهادف ، لذا كان معلوما عنه تنقلاته الميدانية الكثيرة والواسعة والتي شملت جغرافيا الوطن اللبناني ، والاقليم ، والجزء المؤثر في العالم ، ولا زال الناس يتحدثون عن ان هناك بعض القرى والبلدات لم يزرها من الشخصيات الا الامام الصدر ، وفي بعض البلدات كان اعاده الله يزورها راجلا لوعورة طرقها وعدم امكانية وصول السيارات اليها ، واذا ما حصلت مشكلة طائفية او حرب كان يتوجه الى نفس المكان شخصيا لاطفاء الفتنة او كان يعتصم في مكان حتى تتوقف الحرب . وكان اعاده الله يتحرك بعدة اتجاهات دون كلل او ملل مع ما يتطلب ذلك من غياب عن الاهل والعيال ، وبالفعل اذا تاملنا في تحركاته في تلك الفترة مع كل هذه الصعوبات في الطرق وفي وسائل النقل وفي الموانع المذهبية والطائفية وفي الاعتبارات الخاصة برجال الدين نجد ان الامام الصدر اعجوبة حركية ان صح التعبير ، واذا اجرينا مقايسة بين امكانيات وظروف التحرك اليوم وبين ما كانت عليه في زمانه ولظروفه لرأينا ان حركته كشخص في زمانه وظروفه من المفارقات العجيبة ، وما ظهر في مقاطع الفيديو من تحركات له اعاده الله على ندرتها بالنسبة الى ما لم يتم تصويره كاف لاعطاء هذه الصورة الناصعة عن حركيته الهادفة والجادة ، بل ان تغييبه في الخارج افضل دليل على عمق حركيته وقوة مقعولها ، ومن مظاهر قوة الحركية والنشاط عند الامام الصدر انه في عام 1963
أعلن بعد عودته من جولة قام بها في أوروبا واستمرت شهرين، أن هدف رحلته كان التعرف والتعريف ، التعرف على الحضارات الجديدة والوقوف على مجالات التقدم فيها لجهة تطوير مناهج وأساليب العمل في المؤسسات الخيرية والاجتماعية الدينية، وأيضًا تعريفهم على الفكر والثقافة والحضارة الإسلامية.
كانت حركته عظيمة جدا ومجدية فعلى خلفية تاسيس هيئة نصرة الجنوب بمشاركة رؤساء الطوائف اللبنانية ودعا إلى إضراب سلمي وطني عام في 26 أيار تجمع على إثره حوالي 50 ألف شخص أمام مبنى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في الحازمية ، فأنشأت الدولة اللبنانية على اثر ذلك "مجلس الجنوب " ، وسعى في جولة افريقية توجها بلقاء الرئيس العاجي أُفويه بوانييه وبالرئيس السنغالي ليوبولد سنغور من اجل فتح المجال لضمان وضع المغتربين اللبنانيين ، حيث " قدّم لهما مساعدات رمزية بإسم الجالية اللبنانية للأيتام في بلديهما. وأثنى سنغور على بادرة الإمام مشيرًا إلى أنه يتتبع بكل اهتمام نشاطاته التي كان لها التأثير الكبير في بث شعور المحبة والإيمان بين المواطنين. كما كان لهذا المسعى الأثر الكبير في استقبال شاطئ العاج في السبعينات للمهاجرين اللبنانيين إبّان الإجتياح الاسرائيلي " . وعلى اثر اعلان برنامج عمل المجلس الاسلامي السيعي وجه دعوة لتوحيد الشعائر الدينية بين المذاهب الإسلامية، كما حذر من الخطر الصهيوني المتزايد ، وأكد دعمه للمقاومة الفلسطينية لتحرير الأرض المغتصبة. ومن جهة أخرى أعلن أن الطوائف المتعددة في لبنان نوافذ حضارية على العالم ، وفي عام 1970 " أثار حملة تعبوية إعلامية للدفاع عن الجنوب في وجه الاعتداءات الإسرائيلية على منطقة الحدود الجنوبية مطالبًا بتسليح المواطنين وتدريبهم للدفاع ووضع قانون خدمة العلم وتنفيذ مشاريع إنمائية مع دعوة الناس للصمود في قراهم وعدم النزوح " ، وقام بجولة على بعض العواصم الأوروبية دعمًا للقضية الفلسطينية فعقد مؤتمرًا صحفيًا في مدينة بون- ألمانيا الإتحادية أوضح فيه حقيقة القضية الفلسطينية وندد بمحاولات تهويد المدينة المقدسة. وفي مقابلة صحافية في فرنسا قال: "إن مأساة فلسطين لطخة سوداء في الضمير العالمي، وإن نضال الشعب الفلسطيني هو دفاع عن الأديان وعن قداسة القدس، وإن إسرائيل دولة عنصرية توسعية، وإن لبنان بتعايش الأديان فيه ضرورة دينية حضارية".
وفي القاهرة قرر أن تعايش الطوائف هو التجربة الحضارية الوحيدة في العالم، وفي عام1971 غادر الإمام الصدر لبنان في
جولة شملت المغرب حيث ألقى محاضرة في كلية الشريعة في جامعة القرويين في مدينة فاس (بدعوة من الملك الحسن الثاني) ، وتوجه الى موريتانيا ونيجيريا ومصر حيث شارك في القاهرة في المؤتمر السادس لاجتماعات "مجمع البحوث الإسلامية" والذي كان عضوًا مشاركًا فيه منذ سنة 1968. وتقدم الإمام الصدر بمقترحات
لمعالجة الأوضاع الوطنية والإسلامية في هذا المؤتمر ، كما قام الإمام الصدر بزيارة جبهة السويس وأمضى عدة أسابيع فيها حيث اجتمع إلى العسكريين، وأمَّ الصلاة في مساجدها ودعا إلى وجوب التمسك بالدين وإعلان الجهاد المقدس في سبيل تحرير فلسطين، كما اقترح مشروع "سندات الجهاد" لتفعيل المشاركة على كافة المستويات الشعبية في الجهاد ضد إسرائيل . كما وجه الإمام رسالة إلى القس البريطاني هيربرت د. أدامز حول حقيقة وضع الإنسان في منطقة الشرق الأوسط.أكد أن وجود الطوائف في لبنان خير مطلق أما النظام الطائفي فشر مطلق أعطاه الإقطاع السياسي لون القداسة ،وفي عام 1972 أصدر الإمام الصدر تصريحًا في بلدة جويا- جنوب لبنان، حول الأخطار المترتبة على تزايد الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب. ودعمًا لصمود الجنوبيين كثف الإمام الصدر تحركاته السياسية والإعلامية عبر : إصدار بيانات للرأي العام الوطني والعالمي، إلقاء المحاضرات والخطب في المساجد والكنائس والجامعات محذرًا من النتائج المترتبة على إهمال الدولة لتحمل مسؤولياتها تجاه الدفاع عن الجنوب وتنمية المناطق المحرومة ، وفي عام 1974 دعا إلى مهرجان بعلبك في آذار (حضره 100 ألف شخص ) ، كما دعا الى مهرجان صور في أيار (حضرة 150 ألف شخص) حيث أقسم الجميع مع الإمام الصدر على عدم الهدوء حتى لا يبقى محروم أو منطقة محرومة في لبنان وأدى ذلك إلى ولادة "حركة المحرومين" وإصدار "وثيقة المثقفين" المؤيدين لحركة الإمام الصدر المطلبية التي وقعها أكثر من 190 شخصية من قادة الرأي والفكر في لبنان، يمثلون كافة الفئات والطوائف اللبنانية.وبدعوة منه وإشرافه عمل على تشكيل"لجنة التهدئة الوطنية"(لجنة الـ 77) محددًا خطوط تحركها العريضة بالمحافظة على التعايش واعتماد الحوار والوسائل الديمقراطية لتحقيق الإصلاحات ووجوب المحافظة على الثورة الفلسطينية ، واحتجاجًا على استمرار الحرب الأهلية بدأ الامام في 27حزيران اعتصامًا في مسجد العاملية - بيروت متعبدًا صائمًا وأنهاه بعد 5 أيام إثر تشكيل حكومة مصالحة وطنية تبنت مطالب الإمام الصدر الشعبية. وتوجه بعدها إلى قرى القاع ودير الأحمر في البقاع لفك الحصار عنها ووأد الفتنة الطائفية ،وبمبادرة منه تم عقد القمة الروحية لجميع رؤساء الطوائف اللبنانية لتلافي خطر التقسيم وغير ذلك ، وفي عام 1976شارك الإمام الصدر في اجتماعات القمة الإسلامية اللبنانية في بلدة عرمون التي ساهمت بالوصول الى "الوثيقة الدستورية" واعتبرها الإمام مدخلًا للسلام والوفاق الوطني في لبنان ، وعمل جاهدًا على تقريب وجهات النظر بين القيادة السورية وقيادة المقاومة الفلسطينية مؤكدًا أن ذلك قدرهما وأن الصدام بينهما سيؤدي إلى سقوط لبنان وتحجيم المقاومة، وإلحاق الضرر بسوريا والقضية العربية وأن المستفيد الوحيد من كل هذا هو إسرائيل ، كما بذل الإمام جهودًا مكثفة مع الزعماء العرب في محاولة لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، كان نتيجتها انعقاد مؤتمر الرياض 16 تشرين الأول وقمة القاهرة 25 تشرين الأول ودخول قوات الردع العربية إلى لبنان ، وفي مهرجان أُقيم بمناسبة مرور أربعين يومًا على استشهاد الدكتور علي شريعتي، أحد أبرز المفكرين الإسلاميين تأثيرًا في إيران هاجم الامام الصدر نظام الشاه ودعا الى حماية الثورة الاسلامية ودعمها ، وفي عام 1978 قام بجولة عربية على عدد من الرؤساء العرب إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان حيث وصل وأخويه فضيلة الشيخ محمد يعقوب والأستاذ السيد عباس بدر الدين إلى طرابلس- ليبيا في 25 آب تلبية لدعوة رسمية من سلطاتها العليا وانقطع الاتصال بهم هناك اعتبارًا من ظهر 31 آب وحتى اليوم.
الثامنة : الدور الفعال والمجدي :
الشخصية المختزنة للطاقات الشتى الهدارة لا ترضى بان تكون هامشية ومنحازة عن الحياة مكتفية بالحياة الرغيدة او الطبيعية ، وانما تضطلع هذه الشخصية بدور فعال ، بل حتى لو لم تسع للعب هذا الدور فإن نفس وجودها يفرض عليها لعب هذا الدور ، وليس الامر يقف عند هذا الحد بل ان هذه الشخصية لا تقبل بلعب صرف الدور وانما بلعب دور هام بل اهم ، والامام الصدر من هذه الشخصيات الفريدة التي فرضت نفسها على اي واقع تحضر فيه ، وفي كل موقع حضره الامام الصدر قام بدور مهم بل بالدور الاهم ، ولسعة افقه اعاده الله اختار ان يكون دوره في لبنان لانه وجد ان لبنان يحناج الى دور فاعل وجدي فقام بانتخاب لبنان ليكون ساحة للقيام بدوره المعطاء والمثمر ، وظهر فيما بعد صوابية هذا الاختيار والا لو افترضنا لبنان بلا الامام الصدر فماذا كنا سنرى ؟ واي لبنان سيكون ؟ وفي اي دائرة سيتم وضع المحرومين ومن لا مؤسسات رسمية واهلية لهم ؟
الثاسعة : العقلية المؤسساتية :
في مقال لنا سابق عن الامام الصدر قلنا بان الامام الصدر كان يزرع المؤسسات والصروح كما يغرس المزارع البذور ، وهذا يكشف عن احدى اهم مميزات شخصية الامام الصدر وهي العقلية المؤسساتية ، فمنذ تخرجه من الجامعة اشتغل مؤسساتيا فقد كان من المتابعين لحركة تأميم النفط 1952، متواصلًا مع آية الله كاشاني ورئيس حركة "فدائيان إسلام" السيد نواب صفوي والذي كان يعقد اجتماعاته السرية آنذاك في منزل آية الله العظمى السيد صدر الدين الصدر (والد الإمام الصدر) ، وفي النجف عام 1954 شارك في "جمعية منتدى النشر" في النجف الأشرف والتي كان من اهتماماتها عقد الندوات الثقافية ونشرها. كما كان عضوًا في هيئتها الإدارية ، وفي عام 1958 شارك في تأسيس مجلة "مكتب إسلام" كما تولى رئاسة تحريرها، وله فيها مقالات عدة. وكان لهذه المجلة، وهي أول مجلة ثقافية إسلامية صدرت في الحوزة العلمية في مدينة قم، أثرا مميزا في تشكيل الوعي النهضوي في إيران ، وفي عام 1959 شارك مع آخرين (منهم آيات الله: بهشتي، آذري قمي، مكارم شيرازي) في تدوين مشروع إصلاح المناهج العلمية في الحوزة ،
وفي عام 1961 اعاد تنظيم هيكلية جمعية البر والإحسان ، وبعد ذلك قام باتشاء مؤسسات لمحو الامية ، ولدعم المراة ، ولدعم الفقراء من خلال مشروع الصدقة للقضاء على التسول ، واسس مؤسسة جبل عامل المهنية ، وشارك في ( الندوة اللبنانية ) ، ونجح في اقرار مجلس النواب لانشاء المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى كمؤسسة رسمية ، واسس هيئة نصرة الجنوب ، واسس مجلس الجنوب الانمائي ، واعلن عن ولادة افواج المقاومة اللبنانية ( حركة امل ) وحركة المحرومين وغيرها من المؤسسات
العاشرة : حبك العلاقات :
قيل ان قوة اي دولة انما تكمن في ثنائية ( التواصل والاتصال ) ، هذه الثنائية اكد عليها الاسلام المحمدي الاصيل بحدين ادنى واعلى ، فبالحد الادنى في قضية صلة الرحم وبالحد الاعلى في تطبيق حديث اعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان وفي تطبيق { لتعارفوا } و (الصلة خير من قطيعة ) وغير ذلك مما هو موجود في التراث حول الصلة والتواصل .
من هذا المنطلق فقد كان للامام الصدر اعاده الله درجة عالية من القدرة والمكنة على حبك العلاقات مع مختلف الاطياف وجميع الطبقات والاصناف ، فمثلا في لبنان ومع تلك المفاهيم المعڨدة والملتبسة والشائكة بين المتدين وغير المتدين ، وبين المسلم والمسيحي ، والمسلم والمسلم ، والديني وغير الديني ، واذ بالامام موسى الصدر يخرق كل هذه التعقيدات والشائكات والحواجز والموانع فيدخل الكنيسة ويطرق باب غير المتدين ويجتمع مع غير الديني حول مشترك انساني ما ، وهكذا ينجح في حبك العلاقات حتى المعقدة منها ، وليس في لبنان وحسب بل حتى في الخارج ، فعلاقته الموطدة مع الرئيس الفلاني والفلاني والفلاني مشهودة ولاجل ماذا ؟ لاجل الانسان والقيم والوطن . وكشاهد حي على ما تقدم في ميزة حبك العلاقات انه اعاده الله شارك في تتويج البابا بولس السادس من خلال دعوة رسمية وكان رجل الدين الوحيد المدعو ، ومن المعلوم انه حينما تم دفع مبلغ من المال اليه هناك قام بالتبرع به لبناء احدى الكنائس .
الحادية عشر : عوامل الجذب :
الشخصية الجاذبة من اكبر النعم الالهية على الانسان فأن يمتلك جاذبية في الشخصية فهذا يسهل مهمته الرسالية والقيمية ، وقديما قيل لاحد الحكام الغلاظ ان الناس لا تنفض من حولك بالرغم من انك فظ غليظ بينما الرسول الاعظم صلى الله عليه واله وسلم لو كان فظا غليظا بحسب النص القراني والعياذ بالله لانفضوا من حوله ، ومن هذا المنطلق فإن الجاذبية الذاتية في الشخصية التي لا تأتي بسبب اعتباري كالمال والسلطة وما اشبه وماثل وناظر هي من النعم الالهية المفاصة على هذه الشخصية ، واذا طرقت باب وجدان كل من عاش زمن الامام الصدر ورآه وسمعه وسألتهم عن مثال عملي عن الشخصية الجاذبة او عن جاذبية الشخصية فانهم لن يتوانوا ولو للحظة ولن يترددوا عن قول : انه الامام موسى الصدر . واذا قرات عن حال المتفاعلين مع الامام الصدر حتى مع المختلفين معه لوجدت انهم وبأدنى لقاء او حديث معه كانت شخصيته وهيبته وكلماته تاسرهم وتجذبهم ، وكم وكم من رئيس كان يخرف البروتوكول في مدة اللقاء معه وفي الخروج لتوديعه . وببركة هذه الشخصية الجذابة عشقه الناس ، وانا شخصيا بالرغم من عدم معاصرتي له اعاده الله اعرف الكثير ممن عاصروه فوجدت انهم لا يفترون في كل مجلس وحديث عن ذكر خصائصه وصفاته وفكره وكلماته .
هذه المميزات حاولنا من خلالها الاقتراب من بعض مميزات شخصية الامام موسى الصدر وهي غيض من فيض .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق