: هكذا عبرت كربلاء من التاريخ الى الحاضر والقادم من الايام ببركة دور الامام السجاد زين العابدين عليه السلام .
تطرق الشيخ توفيق علوية في خطبة الجمعة الى الحديث عن دور الامام زين العابدين عليه السلام في عبور النهضة الحسينية من التاريخ الى الحاضر والمستقبل ببركة استخدامه لاساليب ذكية جدا كما اسلوب البكاء الرسالي الواعي !!
فالانسان بطبيعته له عدة انواع لتلقي الخطاب ؛ فهو ليس عقلا فحسب ، وليس قلبا فحسب ، وليس عقلا وقلبا فحسب ، وانما هو مجموعة من الامور التي تحتاج الى مجموعة من الخطابات لكي تحاصره فكرة ما فلا يكون له مجال للهروب من تقبلها بدعوى انها لم تخاطبه عبر هذه القناة او تلك !!
فقد تخاطب الانسان بخطاب عقلي فيحتج عليك ويقول لك : انا الان لدي مشاعر وفي وقت المشاعر لم التفت الى العقل !! وقد تخاطبه بالمشاعر فيقول : انا الان افكر بعقلي ولا اشعر بقلبي !! وقد تخاطبه بالعقل والقلب فيقول لك : انا الان اعيش الجانب الحسي المادي !! وقد تخاطبه بلغة الترغيب قيقول لك : انا اعيش جو الخوف !! وفد تخاطبه بلغة الترهيب قيقول لك : انا اعيش بجو الفرح والترغيب !! وقد تتحدث معه بلغة المنطق فيقول لك : انا لا افهم عليك حدثني بلغة القصص !! وقد تخاطبه بلغة علمية فيقول لك : حدثني بلغة الامثال !! وقد تحدثه بلغة الماضي فيقول لك : حدثني بلغة الحاضر !! وقد تخاكبه بلغة الحاضر فيقول لك : انا ابن الماضي !! وهكذا .
لذلك عليك ان توصل له الفكرة من خلال سائر هذه القنوات !! وهذا ما فعله القران المجيد !! فقد استخدم الوسائل العديدة لايصال الفكر الديني الى الناس بحيث انه لم يترك اي جانب من جوانب الانسانية الا وتحدث معها بخطاب يناسبها !! فالقران خاطب الفطرة الانسانية !! خاطب العقل الانساني !! خاطب الحس الانساني !! خاطب القلب والمشاعر الانسانية !! تحدث بالامثال !! تحدث بالقصص !! تحدث عن الترهيب !! تحدث عن الترغيب !! تحدث عن الماضي والحاضر والمستقبل !!
ومن الوسائل المهمة التي اعتمدها القران الكريم لغة المشاعر !! لاحظوا عندما يقول : " يا حسرة على العباد " فإن هذا في غاية الاشفاق !! وفي غاية ملامسة الوجدان الانساني !!
وقد ذم القران المجيد القلوب القاسية والاعين الجامدة . ومدح القلوب اللينة والاعين الدامعة التي تفيض بالدمع !
فقد تعالى : " فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " . وقال تعالى : " أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ & وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ " . وفي المقابل مدح الذين يبكون والذين تفيض اعينهم بالدمع . فقال حكاية عن مريدي الجهاد الذين اعاقتهم العوائق عن مرادهم : " وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ " . وقال حكاية عن السامعين للحق : "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ " . وقال عن اولياء الله : " إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا " . وقال عن اخرين : " وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا " . ومدح الله المتعال البكاء الى درجة ان السماء والارض من شأنهما البكاء على اي مصاب الا ان البكاء لم يصدر منهما بحسب طبيعة تكوينهما على الكفار . حيث قال تعالى : " فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ".
من هنا نفهم ان البكاء بحد ذاته رحمة ، ومن شأنه تكوين مجتمع تسوده الرحمة ويبتعد عنه شبح التصحر العاطفي والجدب الاشفاقي !! وقد ورد ان عائشة قالت لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم لما مات ولده ابراهيم : تنهى عن البكاء وانت تبكي ؟؟؟ فقال : ليس هذا بكاء ، وانما هذه رحمة ، ومن لا يرحم لا يرحم " . لاحظ البكاء هنا رحمة !! قلب لين !! .وفي حديث اخر قال له عبدالرحمن : يا رسول الله تبكي ؟ اولم تنه عن البكاء ؟ قال : انما هذه رحمة ، من لا يرحم لا يرحم " . وعدم البكاء وعدم ذرف الدمع من قساوة القلب ومن علامات عدم خشية الله وعدم الخوف منه ، والحديث المعروف : البكاء زينة الخوف !! وفي الحديث : " من علامات الشقاء جمود العين " . وفي حديث اخر : " ما جفت الدموع الا لقسوة القلوب ، وما قست القلوب الا لكثرة الذنوب " . وقد ورد في بعض الاخبار عن علي عليه السلام في وصف شيعته بانهم " عمش العيون من البكاء " . صدق ولي الله .
ان عموم الوسائل التي تخاطب الانسان من جميع نواحيه ولاسيما مسالة المشاعر والبكاء ؛ قد استخدمها الامام السجاد عليه السلام !! فقد جعل قضية الحسين عليه السلام مرتبطة بكل ظواهر الحياة !! مع شرب الماء يبكي ويذكر الناس بالحسين عليه السلام !! مع اكل الطعام يبكي ويذكر الناس بالحسين عليه السلام !! في سوق القصابين يذكر الناس بالحسين عليه السلام !! عندما يأتي احد الناس ويقول انا غريب ؛ كان الامام السجاد عليه السلام يؤكد له ان الغريب الحقيقي هو الذي يبقى بلا غسل ولا تكفين وهو الحسين عليه السلام !!
نعم ربط الامام السجاد عليه السلام كل مظاهر الحياة بالحسين عليه السلام من اجل تمكين النهضة الحسينية من العبور الينا حتى نحييها !! وليستمر باستمرارها حتى تكون بنهاية المطاف عنوان القيام المهدوي العادل والمنصور باذن الله المتعال !
فقد حول الامام السجاد عليه السلام البكاء الى عنوان رسالي قوامه تمرير النهضة الحسينية الى ما بعد زمانه !!ولذلك كان عليه السلام احد البكائين الخمسة كما روي ذلك الشيخ الصدوق اعلى الله درجاته باسناده عن الامام الصادق عليه السلام انه قال : «البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمّد وعلي بن الحسين عليهم السلام. فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه امثال الأودية. وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره وحتى قيل له «تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ» . وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذّى به أهل السجن فقالوا له: اما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، واما أن تبكي النهار وتسكت بالليل فصالحهم على واحدة منهما. وأما فاطمة فبكت على رسول اللَّه حتى تأذى بها أهل المدينة .. وأما علي بن الحسين فبكى على الحسين عشرين سنة أو أربعين سنة ما وضع بين يديه طعام الّا بكى حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول اللَّه اني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: انما أشكو بثّي وحزني إلى اللَّه وأعلم من اللَّه ما لا تعلمون، اني ما أذكر مصرع بني فاطمه الّا خنقتني لذلك عبرة» .
وكيف لا يكون البكاء احد العناوين الرسالية للامام السجاد عليه السلام وقد تم قتل الحسين عليه السلام ذبحا تماما كما يذبح الكبش كما في الرواية عن احد المعصومين عليه السلام .
هذا الدرس المليء بالرحمة الذي نأخذه من الامام السجاد عليه السلام يحملنا مسؤولية عظيمة اتجاه كل من له صلة بنا ، فعلينا ان نعيش الرحمة مع كل من حولنا ، في بيوتنا واسرنا والاحياء والقرى والمدن والمدارس والجامعات ، فلا يتطرق الجمود والقسوة الى قلوبنا واعيننا ولو بأدنى مراتبه !! كما علينا الحفاظ على خط الحسين عليه السلام بكل الوسائل المتاحة والمباحة !!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق