بقيت القدس بعد كل هذه العواصف السياسية المثارة (القبلة الأولى) التي يجب أن يتوجه إليها جميع المسلمين، وأن تكون الاتجاه الإجباري لحشدهم ونفيرهم، رغم محاولات حثيثة بذلها أعداء القدس التاريخيون لنسخها واستبدالها بوجهات أخرى، أو حتى وضعها في الدرجة الثانية من الوجهات، لكنها خرجت منتصرة وعصية وظلت كما هي القبلة الأولى لهموم وآمال الشعوب العربية والإسلامية.
مركز الامة الواحدة - مقالات - بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي
هناك محاولات جبّارة بُذِلت في سبيل تأخيرها عن صدارة الأولويات الإسلامية، وإحضار أو اصطناع أولويات أخرى، لكنها جميعا فشلت أو هي في طريقها إلى الفشل المحتوم، حاولوا نسخها بـ(دمشق) لتكون قبلة الجهاد الأولى، لكن مشروعا سطحيا كمثل ذلك لا بد أن سيذهب إلى الفشل، وهاهم الآن يضعون (القاهرة) قبلة أخرى للجهاد والأولوية، ولا شك أنها ستفشل وتظل (القدس) طالعة من خلف ركام كل ذلك الزيف لتكون مدينة الإسلام وقبلته الأولى التي لا يجوز الجمع بينها وبين أي أخت لها في هذا العالم الإسلامي.
حينما تتعامل بعض الحركات الإسلامية مع موضوع القدس وتحريرها بنوع من الخفة والسطحية، وانتزاعها عن عمقها الإسلامي والقومي وتسطيحها فإنها لا ريب تذهب في الاتجاه الذي ينادي على إسلاميتها بالزيف والوهم المخادع، وهم بذلك يضعون أنفسهم وحركاتهم ومواقفهم في دائرة الشك والارتهان، إنهم بذلك يناقضون الأدبيات السياسية التي ما فتئوا يرددونها، دعك عن الآيات والأحاديث التي طالما ردّدوها في المحافل والمنابر، سوف لن يخسروا فقط شعبيتهم وبُعْدَهم الاجتماعي والإسلامي بل إنهم يكشفون عن برجماتية غبية، ولعل نظام الإخوان في مصر ضرب مثالا حيا لهذا الغباء الذي حاول النيل من القدس والتهاون في قضية فلسطين لصالح مآرب سياسية عاجلة، لقد أقلق الإخوان في مصر الداخل، وطمأنوا الخارج بما فيهم ذلك الكيان الغاصب للقدس ومقدساتها المختلفة، وكشفوا ما لديهم من تسطيح لقضية فلسطين والقدس، أو فقُلْ: بيّنوا ما لديهم من انتهازية حمقاء في هذا الموضوع، فلا هم جنوا ثمن هذا التنازل السخيف سياسيا، ولا هم حافظوا على مبادئهم الدينية التي أصمّوا آذان الناس بها.
إن التعامل مع قضية فلسطين والقدس والأقصى على هذا النحو هو استهانة واضحة بها، وبالمرتكزات الأساسية التي تنطلق الأمة منها، وبالتراث الفكري الإسلامي المنحاز إلى القدس بقوة وليس ضدها والذي يعطي هذه الحركات شيئا من القبول شعبيا، ويبيّن بوضوح أن من يريد الفصل بين هذه الذاكرة الشعبية الإسلامية التاريخية وبين قضايا الأمة المطروحة على الساحة فإنه كمن يستهين بهذه الشعوب التي ترى في قضية فلسطين قضية كل مسلم وكل عربي، فهو طارئ وعابر سيمر دوره مرور الكرام كما مر الغزاة على هذه المدينة المباركة.
يمثِّل البعد الشعبي في قضية فلسطين الركيزة الأساسية للانطلاق في تحريرها وإعادتها إلى جسدها الذي فُصِلَت عنه إلى جسد غريب لا تنسجم معه تاريخيا ولا جغرافيا ولا آثاريا، فالقدس وآثارها المسيحية والإسلامية ومظهرها وجوهرها وظاهرها وباطنها يؤكِّد بما لا يدع مجالا للشك أنها عربية إسلامية، ومن يحاول أن يضعها على طاولة العناصر السياسية التي يمكن المساومة بها فإنه بتعبير بسيط لا يفقه التاريخ الجغرافي والاجتماعي والشعبي لهذه المدينة المقدسة ولهذا الوطن المعطاء.
حتى تلك (العروش والجيوش) بحسب عنوان كتاب المفكر المصري (هيكل) والتي قدّمت فلسطين بشكل أو بآخر للكيان الغاصب في النكبة والنكسة على طبق من ذهب كانت تعي بقوة أن الشعوبَ عاملٌ مهم في معادلة الصراع العربي الصهيوني، وقد كان جميع أرباب تلك العروش يبطنون ما لا يظهرون، وينافقون شعوبهم المتحمسة لجهاد وإزالة هذا الكيان الغاصب، فكانوا يُرْعِدون ويُبْرِقون أمام الجماهير طلبا للشرعية الشعبية ولكنهم كانوا أمام حلفائهم الأمريكان والإنجليز يقدِّمون رؤى مختلفة ومتناقضة، أي أن القوة الضاغطة التي يمكنها إضفاء الشرعية في الموضوع هي الشعوب المتحمسة لجهاد المحتلين, غير أننا اليوم نجد أن الحكام المعاصرين وحتى من وصلوا إلى الحكم عبر ثورات ما يسمى بـ(الربيع العربي) لا يهمهم من أمر فلسطين شيء كثيرٌ، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا الحد حين أراد تملُّق الغرب بغض الطرف عن مدلَّلتهم (إسرائيل) مقابل إسباغ رضاهم على هذه الكراسي التي جلسوا للتو عليها.
في الحرب العالمية الأولى ثار العرب ضد عدوهم التقليدي (العثمانيين) الذي أدخل العالم العربي نفقا طويلا من الاستبداد والجهالة والاضطهاد، وتحمّسوا للثورة الكبرى التي قادها الشريف حسين وولداه فيصل وعبدالله، وغلت مراجل الحرية في نفوسهم بسبب ما عانوه من ظلم وجبروت، تحمّست الشعوب للثورة للخلاص من نير الظلم، وتحمّس قادتها للحصول على ممالك موعودة من الحليفة (بريطانيا)، هُزِم الأتراك، وتحرر العرب ولكن من الأتراك ليقعوا في قبضة (الإنجليز) والفرنسيين ونفوذهم، وبينما كانت قوات العرب تقاتل معهم جنبا إلى جنب ضد العثمانيين في عام1916م كان الإنجليز والفرنسيون يقتسمون هذه البلدان العربية كغنيمة خالصة سائغة لهم فقط في ما سمي بـ(اتفاقية سايكس بيكو)، ثم تلى ذلك الوعد المشؤوم (وعد بلفور) بإعطاء فلسطين لليهود وطنا قوميا في عام 1917م، ومع أنه في ذات العام اتضح للعرب كل ذلك، لكنهم ظلوا يعمهون في طريقهم، وذهبوا سادرين في غفلتهم بوعي منهم؛ إذ اكتفوا بتكذيب لا يفيدهم شيئا، واستمروا في تغافلهم وتمترسهم خلف غاياتهم الشخصية وخلافاتهم الوقحة وهم يدركون ويرون بأم أعينهم ما يهيئه الانتداب البريطاني لليهود من مقوِّمات القوة والنصر على الأرض، من خلال الهجرات الضخمة والسماح بتدريب قوات محاربة يهودية، ولما هب الشعب العربي الفلسطيني للدفاع عن بلده ودفع الاحتلال عن بلدهم هُرِع الحكام العرب في صورة الناصح الأمين والمشفق أن يكفوا عن العنف وأن يسمعوا لنصائح المحتل الغاشم الإنجليزي، كما فعل الملك عبدالعزيز آل سعود في ثورة 1936م الفلسطينية، ولما حان حين الحرب في عام 1948م بعد أن وضعت بريطانيا وحلفاؤها العربَ الفلسطينيين واليهود وجها لوجه، دخل الأردن تحت سقف قرار التقسيم1947م، وبقيادة ضابط بريطاني في مسرحية واضحة يراد منها البسط على الأراضي المخصصة للعرب في قرار التقسيم، وأما السعودية ومصر فكانتا لا تريدان حربا ولم تنفذ السعودية كثيرا من القرارات التي تضغط على بريطانيا ثم على أمريكا في سبيل وقف دعمهم الكبير للكيان الغاصب، ومنها إيقاف الشركات الأمريكية عن التنقيب على النفط، ولكن لما أرادت منهم بريطانيا أن يحوزوا ما تضمنه قرار التقسيم، وأن يحصل قليل من التأديب لليهود الذين كانوا قد شرِست أخلاقهم ضد البريطانيين أولياء نعمتهم.
دخل العربُ الحرب بمقاس الغرب (بريطانيا وأمريكا) وتحت سقفهم الوضيع، وبرؤى متناقضة وتسكنهم اللاثقة ببعضهم، وتسيرهم الأطماع الشخصية المتناقضة بينهم، والتي غذّتها الدول الاستعمارية وخلقت ظروفَها بشكل سافر فأضاعوا فلسطين، وما كان لـ(وعد بلفور) المشؤوم أن يتحقق لولا أن أولئك العرب ظلوا حلفاء وواثقين لمن أصدره وتعهّد به والتزمه.
وإذا كانت المئة العام الماضية هي نتيجة لذلك الوعد المشؤوم الذي باركه العرب بمواقفهم المخيبة وثوراتهم الفاشلة، فإن ثورات ما يسمى بـ(الربيع العربي) والتي أمّلوا منها الخلاص من ربقة الاستبداد والفساد والعمالة الخارجية، حيث تلك العروش تقف اليوم مرة أخرى لإعادة تفعيل أثر (وعد بلفور) والتمديد له في قضم القدس وفلسطين مئة عام أخرى؛ لأن صداقتهم وتحالفهم مع أمريكا الأم الحنون لإسرائيل وبريطانيا الأم التاريخي لها أقوى بكثير من القدس، وأثقل رزانة من جبال كنعان العربية وأزكى لديهم من مقدساتها، ورغم الآمال العراض من الثورات في التحرر الكامل عما عانوه من الأنظمة القمعية والفاسدة والعميلة، فإن هذه الثورات تبدو من الهزال في النتيجة كما في تلك النتائج التي تمخضت عن ثورتهم في الحرب العالمية الأولى ضد العثمانيين، وبعض القوى الثائرة بدأت تحاول التخلص من الهم التاريخي الإسلامي بتطمين إسرائيل بموقفها المهادن تجاه قضايا المقدسات، وهو ما يعيد العرب إلى مربعهم الغبي، حيث وضعوا هذه الثورات التي هي منجز شعبي جبار تحت خدمة الأجانب من أعداء الأمة التاريخيين، فاستطاعوا اليوم أن يخلقوا أولويات تنافس القدس بشراسة، وأن يستخدموا بعض القوى الصاعدة على ظهر الثورات لإذكاء الهويات المذهبية والطائفية وتوظيفها توظيفا سيئا لإغواء العرب والمسلمين عن قضيتهم المركزية في فلسطين كما هو الشأن في (سوريا)، ثم بين أبناء الشعب الواحد بإذكاء أو افتعال معركة الإسلام والكفر، كما في مصر مثلا.
إنهم بذلك يضعون (وعد بلفور) في الخدمة لمدة مئة عام أخرى، والتاريخ يعيد أغبياءه ولصوصه وانتهازييه مرة أخرى.
ما يطمئن أن شيئا كثيرا قد تحقق على الواقع في ما يتعلَّق بالصراع العربي الإسرائيلي، وهزائم مهينة لحقت بالعدو الصهيوني لمّا يتطهرْ حتى الآن من عارها ولن يتطهر حتى الخلاص بإذن الله تعالى، حيث استطاعت القوة الشعبية المقاومة أن تنظِّم نفسها بنفسها، وأن تقطع حبل الرجاء في الأنظمة الرسمية التي أثبت التاريخ أنه ليست سوى سلة هزائم متعفنة، وإذا كانت دفاعات الكيان الغاصب الأولى تتموقع على أعتاب القاهرة وعلى كامل الأرض اللبنانية مثلا في الستينات حتى الثمانينات في القرن المنصرم أصبحت اليوم في هذا القرن الواعد صواريخُ المقاومات المنطلقة من الذاكرة والجهد الشعبيين تضرب كل مكان في فلسطين المحتلة، وهي المعادلة القابلة للنمو على حساب زوال هذا الكيان عما قريب.
لعل الحس العبقري الذي تفتّق عن اقتراح يوم القدس العالمي الذي يعتبر قناة لإلهام وإذكاء وتجديد الجهد والذاكرة الشعبية في عملية استعادة كرامة الأمة ومقدساتها ودعم المقاومات التي خلصت من وهم الانتصار عبر الأنظمة التي تعمل حفاظا على كراسيها وشعورا بانعدام الشرعية الشعبية تحت سقف الأعداء أنفسهم، واتخذت مبدأ المواجهة الواضحة للعدو وكل من يواليه ويدعمه، وبهذا استطاعت أن تحقق على صغر حجمها وقلة إمكانياتها ما عجزت عنه تلك العروش والجيوش والأنظمة الجمهورية والملكية من دول الطوق العربي.
يشكّل إذن يوم القدس العالمي المقترح من الإمام الخميني رحمه الله باعتباره رافدا جبارا ونهرا متدفقا يصب في محيط ذاكرة الشعوب، ويخاطب الوعي الشعبي ذا الأصول الإسلامية التي لم تتلوّث بالأطماع، والتي ينسجم تفكيرها وسلوكها مع مبادئها أيما انسجام حيث لا تكبِّل تحركاتها أطماع ولا أوهام ولا قلق ولا خوف من زوال كراسٍ ليست على أساس متين.
يستثير هذا اليوم ككثير من القنوات المقاومة والحرة في الشعوب شعور العزة والكرامة، ويستنهض قيم العلياء ومقومات النصر ومعاني الرجولة والفضيلة، ولا يفتأ يذكّر أن هنا قضية مركزية لهذه الأمة هي أولى من كل الأولويات، وهي (الجوهر الفرد) في مصفوفة الجواهر، بل وهي طريق الأمة نحو الوحدة، واللبنة الأولى من لبنات النصر والمجد.
سيظل هذا اليوم علَما يرفرف ويلوح بشَمم الولاء لله وللإسلام وللحرية وللكرامة وللرجولة، ويظل البوصلة التي تهدي الناس وتهدي العالمين إلى القبلة الأولى، مهما حاول (أحفاد أبرهة الأشرم) نسخها أو استبدالها بوجهات أخرى، ومهما عصفت التيارات وأمواج الغبار المصنوع لحجب الرؤية عنها فإنها ستلوح بعربيتها وإسلاميتها من خلف كل تلك المؤامرات والنزوات قائلة: إلي أنا القدس لا كذب، أنا القبلة الأولى أيها المسلمون وأيها العرب.
#القدس_درب_الشهداء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق